تفسیر سوره هُمَزَه تفسیر الجواهر طنطاوی
تفسير سورة الهمزة هي مكية آياتها 9، نزلت بعد سورة القيامة
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
التفسير اللفظي
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الهمزة و اللمزة معناهما الطعن في الناس و إظهار عيوبهم، و أصل الهمز: الكسر، فمن كسر شيئا يقال همزه، و أصل اللمز: الطعن، فمن طعن إنسانا بالرمح مثلا قيل لمزه، ثم شاع كلاهما فيما ذكرناه، فما عدا ذلك من قولهم: الهمزة من يعيبك في غيبتك، و الثاني من يعيبك في وجهك، و ما شابه ذلك من الأقوال، فهي لا طائل تحتها، و كلها داخلة فيما ذكرناه. يقول اللّه: قبح و عذاب لكل معتاد الطعن في الناس، الذي يأكل لحومهم و يؤذيهم في غيبتهم أو حضورهم، و هذا قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ و قرئ «همزة و لمزة» بالسكون، و هو الذي يأتي بالأضاحيك و يشتم، ثم قال: اَلَّذِي جَمَعَ مٰالاً وَ عَدَّدَهُ أي عده مرة بعد أخرى، يَحْسَبُ أَنَّ مٰالَهُ أَخْلَدَهُ أي تركه خالدا في الدنيا لا يموت، مع أن الذي يخلد إنّما هو العمل الصالح، لا المال المجموع. كَلاّٰ ردع له عن حسبانه لَيُنْبَذَنَّ أي الذي جمع فِي اَلْحُطَمَةِ أي في النار التي شأنها أن تحطم كل ما وجد فيها، وَ مٰا أَدْرٰاكَ مَا اَلْحُطَمَةُ تهويل في أمرها و تعجيب من شأنها، هي نٰارُ اَللّٰهِ اَلْمُوقَدَةُ (6) اَلَّتِي تدخل في الأجواف و الصدور و الرئات، فهي إذن تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ التي هي ألطف ما في الأجسام، فتشتمل عليها لإحراقها فيكون ذلك أشد الألم. إِنَّهٰا أي النار عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ مطبقة فِي عَمَدٍ كقمر و جنب، و هما لغتان في جمع عماد، مُمَدَّدَةٍ صفة للعمد. يقال: إما أن الأبواب تؤصد عليهم، و على هذه الأبواب تمدد العمد حتى لا تفتح تلك الأبواب، و إما أنها عمد يعذبون بها في النار. أقول: و لقد ثارت مناقشة في الجرائد في هذه السنة سنة 1925، ذلك أن أحد الأطباء قال: إن أشعة رونتجن التي هي ذات عمل عظيم في النوع الإنساني ترى في إشراقها كالأعمدة.
فقال بعضهم: لعل الآية تشير إلى كشف هذه الأشعة. و قال آخرون: كلا. و أخيرا انتصر الذي قال إن القرآن أشار لها.
أما أنا فأقول: إن المقام مقام حكمة، فلعل نار جهنم بهيئة تلك الأشعة، و أيضا العذاب في الآخرة عذابان: عذاب جسمي و عذاب نفسي. و هكذا النعيم نعيمان، كما أننا في الدنيا نحس بآلام جسمية و آلام عقلية، و بلذة حسية و أخرى عقلية نفسية، هكذا يوم القيامة. و ما أشنع و أقبح أن يطلع الإنسان بعد الموت على صورة قبيحة أحاطت به و يريد صرفها عنه فلا تنصرف، و يطلع فيراها محيطة به ملازمة كما يلازم الظل صاحبه، و الهواء الإنسان و الحيوان، و إذا كنا في الدنيا نرى الاحتقار و الذم إهانة لا تطاق، و إذا كنا نتوارى من العار؛ لا لا بل نقدم أنفسنا للقتل فنسوق الجيوش للأخذ بالثأر، و نجندل الأبطال في ساحات القتال، كل ذلك لنغسل العار اللاحق بنا، و يقوم الرجل الذي أهين فيغسل العار عن نفسه بتقديم نفسه للسيف و النار، كل هذا في الدنيا مشاهد، و لكن الناس ينظرون و لا يفكرون غالبا، فإذا كان ذلك هنا فلنقل: إن اللّه عز و جل حين نخرج من هذه الأرض بأرواحنا و قد تركنا أجسامنا في الأرض؛ يطلعنا على صورنا المعنوية، فينظر الإنسان فيرى صور أعماله لاحقة به، ملصقة محيطة به، فيقال: كَفىٰ بِنَفْسِكَ اَلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] .
و لقد جاء هذا في علم الأرواح و قالوا لما سألوهم ما يفيد هذا المعنى، كل ذلك بعد الموت، و ما يوم القيامة إلا نتيجة الدنيا و عالم البرزخ، فأي عذاب أعظم من هذا، و أشعة راتنجن المذكورة التي أشعتها كالعمد يرى بها الأطباء ما خفي في الجسم، فيعرفون بواطنه، فيكون ذلك كالرمز إلى الاطلاع على الحقائق، و يقول الإنسان إذ ذاك: يٰا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرٰاباً [النبأ: 40].
فإذن اطلاع النار على القلب سواء أكان بالإحراق لمن هو في أول العذاب، أو بكشف الحقائق و إظهار ما اختبأ في السرائر من العيوب المخزية، فهو في كليهما عذاب، و عذاب الخزي أشق من عذاب الجسم، كما قال قدماؤنا. فالآية تفيد عذاب الجسم و هو الأقل، و عذاب الخزي بالكشف و هو الأعظم.
و اعلم أن النار فيها أمران: حرارة للإحراق، و نور للإشراق، فالحرارة لتفريق الأجسام و إذابتها، و الإشراق لتمييز الصور و الأشباح، فكما فرقت الحرارة بين أجزاء المادة فرق النور بين صورها، فهذا تفريق و إبعاد، و هذا تمييز و تفريق، فالنور و الحرارة أرسلهما اللّه للعذاب و للنعيم، و للبؤس و السعادة.
هذه السورة أشبه بسورة «التكاثر» ، فسورة «التكاثر» ذم اللّه فيها من أضاعوا حياتهم في التكاثر و التفاخر بالأموال و الأولاد، و هذه ذم اللّه فيها من أمسك المال و جعل معوله عليه و أطلق للسانه العنان، فهو بالهمزة و اللمزة ينقص قدر غيره، أي: يستعين على كيد الناس باللسان كما كان هناك يفاخر ليظهر العلو عليهم. و إلى هنا تم الكلام على سورة «الهمزة» ، و الحمد للّه رب العالمين.
ج25، ص368